مفهوم التيسير النحويّ
اللغات مفطورة بالتطوّر والتقدّم بحسب الأسباب الحضاريّة والعالم الذي يتحوّل ويتغيّر باستمرار، وبقدر ما تواكب اللغات بمعطياتها كافّة الركب الحضاريّ؛ بقدر ما تصبح قادرة على الصمود والحفاظ على كيانها ووجودها وهويّتها.
والنحو في اللغات أساس ومذهب يتيح اكتساب اللغة بأصولها وإجادة استعمالها في المقامات اللغويّة كافّة... وقد عرف النحو العربيّ قديماً وحديثاً الكثير من الدراسات والتعقيبات والتعليقات ما لا مجال لذكره أو حصره في هذه العجالة.
لكن يمكن الاستناد التاريخيّ على ما قاله (السكّاكيّ)[1] حول موضوع النحو العربيّ وقد عرّفه بـ: " اعلم أنّ علم النحو هو أن تنحو معرفة كيفيّة التركيب فيما بين الكلم لتأدية المعنى مطلقاً بمقاييسَ مستنبطة من استقراء كلام العرب، وقوانين مبنيّة عليها، ليحترز بها عن الخطأ في التركيب من حيث تلك الكيفيّة..."[2]
يدلّ كلام السكّاكيّ على أنّ علم النحو هو ذلك العلم الذي نتمكّن بموجبه من دراسة أصول تشكّل الكلام وإلقائه- استعماله بالعودة إلى الحافظة وإلى ما قاله العرب الأوائل؛ وبذلك يلمّح إلى مستويات تشكّل السليقة اللغويّة والحدس اللغويّ المنبني على استقراء القاعدة واستنباطها من خلال مدوّنة أصوليّة مستلّة من التاريخ العربيّ الكلاميّ.
ومع أنّ السكّاكيّ شرح - كغيره من العلماء- علمَ النحو شرحاً يردّه إلى الجذر التاريخيّ؛ غير أنّه التفت إلى بعض الفجوات التي ينبغي تسليط الضوء عليها من قبيل تأمين الخصوصيّة لبعض المسائل النحويّة؛ ومن أجل هذه الغاية أفرد فصلاً من كتابه وسمه بـ( ضبط ما يفتقر إليه علم النحو)
وقد مهّد له بالآتي: "وهي أن تلك الهيئات التي يلزم رعايتها، على تفاوتها بحسب المواضع وجهة التقديم والتأخير، منحصرة بشهادة الاستقراء في أنّها اختلاف كلم دون كلم، اختلافاً لا على نهج واحد، لاختلاف أشياء معهودة، فيظهر من هذا أنّ الغرض في هذا الفصل إنّما يحصل بضبط ثلاثة: القابل والفاعل والأثر."[3]
يحسب السكّاكيّ أنّ النحو العربيّ فيه من المجالات والحالات البحثيّة ما لا بدّ الالتفات والانتباه إليه... لذلك تراه يسعى إلى ربط النحو بمسائل علم المعاني والبلاغة، وبهذا يخرج النحو من المعياريّة التاريخيّة نحو مساحة أكثر رحابة، ألا وهي المساحة التواصليّة...
وبهذا نستنتج أن الدعاوى إلى تجديد النحو ليست وليدة العصر الحاليّ، بل كانت مفتوحة منذ العصر القديم... مروراً بغير محطّة تجديديّة أو فلنقل ثورويّة، مثل ثورة (ابن مضاء القرطبيّ)[4] وغيرها...
وقد قامت ثورة ابن مضاء على أساس ردّة فعل عبّرت عن رأي العوام أي أولئك الذين يطلبون علم العربيّة فيخبطّون بكثرة الآراء والدارس والمذاهب حتّى للقضيّة النحْويّة الواحدة
إزاء هذا الواقع قام ابن مضاء بتأدية دور الحكم في كثير من مواضيع الخلاف بين أكثر من مدرسة نحويّة، كمدرسة البصرة ومدرسة الكوفة وهكذا دواليك... حتى باتت حركته تُعرف بثورة (ابن مضاء القرطبيّ).
أمام هذا الواقع التأهيليّ الأصيل الذي أقرّ بتجديد النحو العربيّ، برزت محاولات الباحثين والأكاديميين على اختلاف مذاهبهم وآرائهم لتطرح المواقف التجديديّة... وقد اتّخذت أغلب هذه الآراء مناح تربويّة- تعليميّة؛ أي كانت بغرض تيسير أساليب التدريس النحويّ للناشئة.
لكن هذا لم يعفِ دعاة التجديد من أهمّيّة تحديث المجتمع قبل تجديد النحو وأساليبه؛ " أمّا إذا كان المجتمع متقدّماً، نجد الفكر على درجة من الحيويّة والثراء والفاعليّة ممّا يتيح له الفرصة لأن يقوم بدوره في التصحيح والتوجيه، ذلك لأنّ حركة الواقع الاجتماعيّ هي غذاء الفكر..."[5]
إحالات
[1] السكَّاكي (يوسف بن أبي بكر-). (555 626هـ/1160 1229م)ثالث علماء البلاغة في القرن السادس الهجري، الف كتابه مفتاح العلوم في علوم البلاغة الثلاثة دون ربطها بموضوع اعجاز القرآن وصنفه في اثني عشر عاماً.
[2] يوسف بن أبي بكر السكّاكيّ، مفتاح العلوم، تح: نعيم زرزور، دار الكتب العلميّة، لبنان، ط2، 1987، ص: 75.
[3] السكّاكيّ، م س، ص: 76.
[4] أبو العباس، أحمد بن عبد الرحمن ابن محمد بن مضاء اللخمي القرطبي 513 ـ 592 هـ/1116 ـ 1196م، ولد في قرطبة بالأندلس. وهو من علماء النحو، وله فيه آراء ومذاهب خالف فيها جميع النحويين...
[5] سعيد إسماعيل علي، الفكر التربويّ العربيّ الحديث، مجلة عالم المعرفة، الكويت، ع 113، 1987، ص:6.
[2] يوسف بن أبي بكر السكّاكيّ، مفتاح العلوم، تح: نعيم زرزور، دار الكتب العلميّة، لبنان، ط2، 1987، ص: 75.
[3] السكّاكيّ، م س، ص: 76.
[4] أبو العباس، أحمد بن عبد الرحمن ابن محمد بن مضاء اللخمي القرطبي 513 ـ 592 هـ/1116 ـ 1196م، ولد في قرطبة بالأندلس. وهو من علماء النحو، وله فيه آراء ومذاهب خالف فيها جميع النحويين...
[5] سعيد إسماعيل علي، الفكر التربويّ العربيّ الحديث، مجلة عالم المعرفة، الكويت، ع 113، 1987، ص:6.
تعليقات
إرسال تعليق