بكاء ومهزلة
القرآن الكريم ـ سورة القلم 36
المهزلة المُبكية
في العنوان تناقض صريح ، وشتّان بين الهزل والبكاء .
فالمعنى المعجميّ لكلمة "مهزلة" يدلّ على اسم مشتقّ من المصدر "هزْل".
والهزل : هو الضّحك والفكاهة والسّخرية .
والمهزلة : تشير في استخدام معناها التعييني لا التضميني ، إلى عملٍ مسرحيّ يقوم على إثارة الضّحك كهدف أساسيّ ، بخلاف " الملهاة " الّتي تدور في فَلَك الترفيه والتّسلية ؛ ومع أنّ الملهاة تتسلسل أحداثها في قالب فكاهيّ، غير أنّها تختلف في أسلوبها عن " المهزلة " التي ترتكز على السّخرية والتّحقير ، مُخفيةً خلفها استعراضًا مبطّنًا لواقع موجع ومحزن ومهين للكرامة وممزّق للرّوح .
بحيث تغدو الابتسامة العريضة مخدّرًا لألم البكاء المرير ، والقهقهة العالية ضمادةً تخفي خلفها جرحًا متقيّحًا يتآكل صاحبه الصّديد.
وعلى مسرح الحياة تغدو أوجه المهزلة المبكية في مدائن الضجيج ، عرضًا مفتوحًا لا تُسدل ستارته إلّا أمام سكّان المقابر .
وتتكرّر المشاهد :
ـ حين يأكل الرّاعي الغنم ، بل ويهرّبها خارج المزرعة ليودعها حظيرة الذئب ، ثمّ يتّهم حارس الغابة ، فهذه مهزلة مبكية
ـ حين تتضمّخ بالعطر ، وتغفو قرير العين في القُمامة ، ثمّ تنظّم القاذورات بطريقة تتيح لك إطلالة على مدينة الأحلام المجاورة ، لتحلمَ بأنّك ستسكنها يومًا دون العبور إليها ، فهذه مهزلة مبكية .
ـ حين تبني برجًا عاجيًّا على فوّهة بركانٍ أنت متيقّنٌ من ثورته عاجلاً أم آجلاً لكنّك مأخوذ بجودة هندستك ، وموهومٌ بقدرتك على التصميم ، فهذه مهزلة مبكية .
ـ حين يشير إليك من تقلق راحتهم ، وتعكّر صفوهم إلى طريق الهلاك المحتوم ، فقط ليتخلّصوا من عبئك عليهم ، فتسلكها راضيًا مقتنعًا لا همّ لك سوى رضاهم ، فهذه مهزلة مُبكية .
ـ حين تكون صاحب عقل ومعرفة وقيمة وجوديّة ثمّ يقيّدك غبيٌّ وساذج وتافه ليمارس عليك سلطته ويعوّض نقصه فيكَ ، وترضخ قانعًا مستسلمًا مبرّرًا لنفسك أنّ هذا هو حكم القدر ، فهذه مهزلة مبكية .
ـ حين تسمع من ينادي الأحمق والأميّ والجاهل بألقاب الاحترام والتّقدير والتّبجيل مخاطبًا بزّته التي يرتديها ، ويهين بالمقابل عالمًا عارفًا مثقّفًا شريف أصل عفيف نسب نفيس معدن ، لكنه يرتدي ما يستر عريه ، ولا تنتفض كرامتك رفضًا .فهذه مهزلة مبكية .
ـ حين تصفّق للكاذب ، وتهادن المخادع ، وتعظّم الوصوليّ ، وتحابي الانتهازيّ ، وتعاشر دون خجلٍ من يقدّسون كلّ هذا دون أن تثور عليك نفسك . فهذه مهزلة مبكية .
ـ حين تكذب على نفسك معتقدًا أن الكذب أفضل أساليب مسايرة الواقع ، ولا توقظ فيكَ مرآتك ما يصفعك احترامًا لله في قلبك . فهذه مهزلة مُبكية .
كثيرون ـ ربّما ـ يدورون في افلاك المهزلة المبكية ، وقلّة هم الذين اختاروا أن يكونوا أرواحًا هائمة غريبة في هذا الفضاء الرحب ، ولكن أظلم من فينا لأنفسهم هم أولئك المخاتلين ذواتهم ، المقتاتين على ما تركَ لهم الوقت من فتات أحلامهم ، منتظرين معجزة يجود بها رحم سعيهم العقيم.
ألا تعسًا للسائرين بمحض إرادتهم نحو حضيض "المهزلة المُبكية " .
ملاحظة : في قصّة الجميلة والوحش ، كان الوحش يحبّ الأزهار ، ويملأ قصره بالورود ، وكان طيّبًا عفيفًا كريمًا ، لذا أذهبت عنه الأميرة لعنة السّحر ، أما الوحوش الّتي تعادي الأزهار وتدوس الورود ، فهي من نسل تلك السّاحرة الشّريرة ، القادرة على تشويه جمال الأميرات وتحويلهن إلى جثث متحرّكة .
...م.س…
ضجيج وأنا
تعليقات
إرسال تعليق